بــقلم منتصر صباح الحسناوي – الـــنخلة الـعراقية هـوية مــتجذّرة وسـط زحـام الـرموز
كتبتُ ذات مرّة عن الأشجار التي تبوح بذاكرة الأرض، وأشرتُ إلى بعض النباتات التي تحمل في جذورها رُكام الزمن العراقي. لكني أدرك تماماً أن الحديث عن النخلة لا يُحتمل الإشارة ولا الاختزال.
فالنخلة في العراق ليست كبقية الأشجار، ولا حتى كشقيقاتها من النخيل في بلادٍ أخرى.
زرتُ عدداً من الدول العربية في الشرق والغرب، فرأيت اهتماماً واسعاً بشجرة النخيل. في بعضها تُعدّ رمزاً اقتصادياً، وفي أخرى تُزيّن الشوارع والساحات الكبرى وتُقدَّم في مهرجانات الفخر بالتراث الوطني، لكن شيئاً في داخلي لا يتبدّل حين أقف أمام نخلةٍ في غير العراق. أشعر أنها تُشبه النخيل ولا تُشبهه، لا أجد تلك المهابة التي يحملها جذع النخيل العراقي، ولا في سعفه، ولا حتى في عثوگ تمره. النخيل لدينا شيءٌ آخر. قد يكون ذلك أمراً نفسياً أو انحيازاً للهوية، لكن النخلة في بلادي مختلفة… مختلفة بكلّ شيء.
النخلة في التاريخ والهوية العراقية
لعلي هنا أختصر كثيراً مما كُتب، ولا سيما في هذا المجال. كان للدكتور عبد الأمير الحمداني بحثٌ في صورة النخلة في المعتقدات الرافدينية، أشارت له الكتابات إلى أن النخلة تعدّت كونها مجرد غطاءٍ نباتي أو موردٍ غذائي في حضارات الرافدين، إذ مثّلت جزءاً من الميثولوجيا المؤسسة للوعي العراقي القديم.
في الأساطير السومرية، ارتبطت النخلة بالخصب والعشق والموت والبعث، وظهرت في طقوس الإنبات وتجدد الحياة، وفي روايات دموزي وعشتار التي روت كيف تموت الأرض وتعود إليها الحياة في كل ربيع.
وعلى الأختام الأسطوانية التي صنعها السومريون، نرى النخلة واقفةً بين الآلهة كأنها تتوسطهم شفيعةً للأرض.
في حياة الناس اليومية، كان للنخلة أثرٌ يتجاوز الظاهر، فقد دخلت في تفاصيل العيش من بناء السقوف إلى صناعة السلال والمراوح والحبال. ويُقال إن العراقي كان لا يهدر من النخلة شيئاً، حتى الجريد اليابس كان يؤنس به ليالي الشتاء.
أما التمر، فقد كان غذاء الفقير، وهديّة الغني، وقوت الجندي في الحرب، وزاد الحاج في الطريق…. ولا يزال كذلك.
لكن القيمة الأعمق تجلّت في وجدان العراقيين، فالنخلة دخلت أمثالهم الشعبية، وارتبطت بحكايات الأصل والصبر والمروءة والعطاء والمهابة.
“النخلة ما تعلى على أصلها”
“النخلة ما تنكسر، تميل وتعتدل”،
وكثيرٌ من الأمثال غير ذلك…
ولحدّ يومنا هذا، ما يزال أوّل ما يفكّر به العراقي عند بناء بيتٍ جديد هو: أين أزرع النخلة؟
الأمر أقرب لطقوس الاستقرار والمحبة والاعتقاد بالخير منه إلى التزيين أو الظلّ، كأن البيت لا يكتمل دونها، وكأن وجودها يمنح للمكان روحه، ويوقّع على عقد الانتماء بين الإنسان والأرض.
في كل مدينةٍ عراقية، أصبحت للنخيل سِمةٌ خاصة بالتنوّع. رغم انتشار جميع الأنواع جغرافياً، إلا أن هناك بعض الخصوصية، فنجد أن البرحي بصراوي، والشويثي في ذي قار، والبلكة في السماوة، والقرنفلي في ديالى. وإذا ما أردنا العدّ سنحتاج مقالاً آخر. حتى باتت النخلة شاهداً على الجغرافيا والتراث معاً.
بين العولمة وتشويش الرموز
غير أن انتشار زراعة النخيل في بلدانٍ أخرى قد أحدث ضبابيةً في الرمزية، خصوصاً حين تبنّت بعض الدول صورة النخلة في بعض شعاراتها الرسمية أو مروّجاتها السياحية. فتشابه المنظر الخارجي لم يرافقه تشابهٌ في الجذر الحضاري أو البعد الرمزي، ما جعل الكثيرين يخلطون بين “نخيل العراق” وبين ما يُشبهه شكلاً لا مضموناً.
في الخليج، تُزرع النخيل على نطاقٍ واسع، وتُخصّص لها الميزانيات، ويُحتفى بها في المهرجانات. وفي المغرب العربي، تُستخدم في تقاليد الطعام والبناء والتزيين.
وحتى في الولايات المتحدة، تُزيّن النخلة الشوارع الواسعة في كاليفورنيا وفلوريدا. لكن هل هذا يعني أن رمزية النخلة أصبحت عامة؟ أم أن هناك فرقاً بين النخلة كنبات، والنخلة كهوية؟
النخلة العراقية لا تُقاس بعددها، ولا بحجم إنتاجها، بقدر ما تمثّله من دلالةٍ عميقة. فهي تحمل في جذعها بقايا التاريخ، وفي سعفها هيبة المكان، وفي تمرها مذاق الطين والماء.
وهذه الخصوصية لا يمكن تكرارها بزراعةٍ شبيهة، ولذا فإن حماية هذه الرمزية من التلاشي تطلّبت وعياً جمعياً ومؤسساتياً يتنامى الآن بشكلٍ ملحوظ على كافة المستويات.
إنه نوعٌ من تحدي الريح بذاكرة الهوية، في بلادٍ عانت الكثير لتظلّ النخلة رمزاً لما لم ينكسر، كضرورةٍ وطنية.
فالعراق، وإن تشابهت معالمه مع غيره، يبقى وحده أرض النخلة التي لا تُشبه سواها… “النخلة” التي تُروى بماء الفراتين، وتُروى تحت ظلّها الكثير من القصص.