الأخبار العاجلة

هــــويّاتٌ بـــــلا جُـــدران

بقلم – منتصر صباح الحسناوي – هــــويّاتٌ بـــــلا جُـــدران

الأمــرُ قــــد يـتجاوز طـبخَ “ُالــقيمة” الــنجفية في لــــندن أو لـــبسَ الــجينز الـــممزق في الـــديوانية. قـــد يــــصلُ إلى رفـــع عــلمٍ آخــر أو اعتــناقِ مـــعتقدٍ مــغاير أو تــحكم بـــعقلٍ جمعي فـــئوي من خــارج الـــحدود.
نشعر بثِقَلِ هُويّاتٍ حولنا حتى باتت تشكّل جزءاً من التراكمات التي لم تَعُدْ خفيّةً، تجاوزت التسلّل إلى القلب، وصارت أقرب إلى واقعٍ مؤثر في مجريات حياتنا اليوميّة.
الهُويّاتُ “العابرةُ للحدود” لم تَظْهَرْ فجأةً، هي قديمةٌ بقدم الرحلاتِ الأولى للإنسان حين خرج يبحثُ عن ماءٍ أو دفءٍ أو أرضٍ أوسع.
اتّخذت مع ذلك شكليّن مختلفيّن بوضوح: هُويّةُ المهاجرِ التي كانت وما زالت ظاهرةً إنسانيّةً عالميّة، وهُويّة المواطن المتأثّر بالثقافات العابرة، التي انفجرتْ في العقودِ الأخيرة مع عولمةِ الاقتصاد والفكر والتقنية.

في النوعِ الأوّل، تظهر القصة مألوفة: شخصٌ يتركُ أرضَه إلى أرضٍ أخرى، مُضطرّاً أو راغباً. يحمل في حقيبته رائحةَ خبز أمّه ولغةَ جدّه وقصصَ طفولتِه، ثم يصطدمُ بعالمٍ جديدٍ: لغةٌ أخرى، قوانينُ أخرى، ذائقةٌ أخرى.
ينشأُ في داخله انقسامٌ جميلٌ وصعبٌ معاً، نصفُه في بلدِ الأصل ونصفُه في البلدِ الجديد، يشتاقُ إلى الوطنِ حين يتأمّلُ غروباً على البحرِ في المهجر، ويشعرُ بالغربةِ عندما يعودُ إلى الوطنِ فيرى الناس قد تغيّروا، والمدينةَ اصبحت غريبةً عن ذاكرتِه.
هذه الهُويّة المولودة من تجربةِ الهجرةِ تنحتُ جسوراً بين ثقافتين وأحياناً أكثر.
اللبنانيون في المهجر مثالاً حيّاً، وكذلك العراقيون الموزّعون على عواصم الدنيا، والفلسطينيون الذين حملوا بلادَهم في القصائدِ والأغاني والحقائب، والصينيون الذين ظلّوا يحتفلون برأسِ سنتِهم القمرية أينما حلّوا.

والزمنُ الذي نعيشه الآن تزامن مع نوعٍ آخر، أشدَّ انتشاراً وخفاءً.
لم يَعُد المرءُ بحاجةٍ إلى أن يركب طائرةً ليشعرَ بأنّه يعيش بين عوالمَ متداخلة.
أصبحَ المواطنُ في بلدِه يلبس هُويّاتٍ قادمةً من بعيد، بسببِ العِرق أو الدّين أو المذهب، يجدُ نفسَه معنيّاً بصراعاتٍ وأحزان وآمال خارج حدودِه الوطنيّة.
الشابُّ في بغداد أو القاهرة، مثلاً، قد يُعرّفُ نفسَه بوصفِه جزءاً من أمّةٍ إسلاميّةٍ كبرى، أو من قوميّةٍ عربيّة، أو حتّى من جماعة عقائديّة عالميّة.
ولا يقفُ الأمرُ عند الانتماءات الدينيّة والعِرقيّة والمذهبيّةِ، إذ يمتدُّ إلى الأفكارِ وأسلوب الحياة.
التكنولوجيا ساوَتْ بين الجميع: كلُّ واحدٍ اليوم قادرٌ على أن ينتمي إلى ثقافاتٍ متعدّدة وهو جالس في مقهى الحيِّ.
على هاتفِه الصغير، يتابع شابّاً كوريّاً، ويستمع لموسيقى أمريكيّة، ويقلّدُ أزياءً يابانيّةً، ويناقشُ أفكاراً عن الحرّية والعدالة والبيئة مع أصدقاء لا يعرف أسماءَهم الحقيقيّة ، أو يَعشقُ، فيحبُ أرضَ المعشوق وأرضهَ وسَماءه دون هواده.

هذا المواطنُ الجديد، المتأثّرُ بالثقافاتِ العابرةِ، يعيشُ حالةَ انتماءٍ مفتوح.
يكتبُ على صفحاتِه في وسائلِ التواصلِ أنّه “مواطنٌ عالمي” أو “ابنُ الإنسانيّةِ”، ويشعر فعلاً أنَّ هُويّتَه أكبرُ من حدود جوازِ سفرِه.
يصابُ أحياناً بالحيّرةِ: إلى أيّ عالمٍ ينتمي حقّاً؟
هل هو ابنُ هذه الأرض التي وُلِدَ عليها أم ابنُ القضايا الكبرى التي فتحتْه على العالمِ؟
كيف يوفّقُ بين هُويّتِه المحليّة والهُويّة الكونيّة التي أغوتْه؟

الهُويّات العابرة للحدود تمنح أصحابَها أفقاً واسعاً وتجربةً إنسانيّةً غنيّةً، لكنها قد تتحوّلُ إلى فتيلِ أزمةٍ إذا استُغِلَّتْ بأدواتٍ خفيّةٍ لتأجيجِ الفِتن والانقسامات.
في واقعِنا المعاصر، أمثلةٌ كثيرة على ذلك: حين يُحرّكُ خطابٌ خارجيٌّ جماعةً دينيّة ضدَّ أخرى، أو يُستثمر الولاءُ العِرقي لصالح مشاريع سياسيّة خارجيّة ، أو تُغذّى الانقسامات الفكريّة عبرَ منصّاتٍ رقميّةٍ لخدمةِ صراعٍ أكبر.
هذه الهويّات، إذا جُيّرتْ بخبث، تتحوّل إلى شرارةِ صراع بدلاً من أن تكونَ جسراً للتواصل.

ويبدو الجيل الجديد، الذي يُسمّى أحياناً جيلَ التكنولوجيا او الانترنت، الأكثرَ تعرّضاً لهذه التيّارات.
بحكمِ نشأتِه بين الشاشات، ينفتحُ على عوالمَ لا تعرفُ الحدودَ، فيتشرّبُ أنماطَ حياة وقِيماً وأفكاراً من كلِّ صَوب.
ومن المتوقَّع أن تتعمّق الظاهرة مستقبلاً مع موجاتِ عولمةٍ أشدَّ شمولاً وأعظمَ تأثيراً ممّا نراه اليوم.

بين هذين النوعين من الهُويّاتِ العابرةِ، المهاجرِ والمواطنِ المتأثّرِ، تظهرُ قواسمُ مشتركةٌ.
كلاهما يختبرُ حيرةَ الانتماءِ وضغطَ التوفيقِ بين الجذورِ والأجنحةِ.
كلاهما يحملُ فرصاً لصُنع الجسور ومخاطر أن يتحوّل إلى أداة صراع.

ويبقى الأملُ قائماً في أن تكونَ هذه الهُويّاتُ مَعبراً نحو معرفةٍ أوسعَ بالذاتِ والآخرِ.
حين نفهمُ أنَّ الهُويّةَ كشجرةٍ لها جذورُ أصالةٍ مع إمكانيّة تغيير أوراقها لتلائمَ البيئةَ المتغيّرةَ حولَها، نصبحُ أكثرَ تسامحاً مع أنفسِنا ومع الآخرينِ.
والوعيُ بأنَّ الانتماء الحقيقي يمكن أن يتّسع ليحتوي التعدديّة من دون أن يتخلّى عن الأصالة، هو ما يجعلُنا قادرين على مواجهةِ الفِتنِ بدلاً من أن نكونَ حطباً لها.

نحن أبناءُ هذه الأرضِ وأبناءُ هذا العصرِ.
بين الهجرةِ والاتصال، بين الذاكرةِ والشاشةِ، بين خبزِ الأمِّ وحُلمِ العالمِ، نصوغُ هُويّتنا كلَّ يوم.
وكلّما رأينا أنفسَنا في مرآةِ الآخرِ أدركنا أنَّ الهُويّاتِ العابرةَ للحدود قد تكونُ غُربتَنا المؤقّتة، لكنها أيضاً فرصةٌ لإنسانيّتنا الأوسع، من دون أن نُغيّر جذورَنا وأصالتَنا.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial