المدير التنفيذى لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا يتحدث عن سنة الإختلاف وآفة الخلاف
بقلم \ الكاتب و المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد اللطيف
رئيس تحرير جريدة الأمة العربية ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
مما لا شك فيه أن الوسطية الإسلامية الجامعة كانت هى المنهاج الذى بلور علوم الحضارة الإسلامية النظرية منها والعملية الدينية منها والمدنية ـ فكان:
> التركيز في فقه القرآن علي المحكمات ـ التي هي أم الكتاب ـ مع رد المتشابهات إلي هذه المحكمات.. وقصر التأويل ــ تأويل الراسخين في العلم ـ علي معارف عالم الشهادة, والاقتصاد الشديد في تأويل ماله علاقة بعالم الغيب.
> والوقوف في فقه العبادات ـ الذي بلورته اجتهادات أئمة المذاهب الفقهية الكبري نقلا عن السنة النبوية ـ عند مجمل الفرائض والواجبات والسنن والمستحبات والمحرمات والمكروهات.. دون الدخول في التفريعات والتفاصيل والفروض المحتملة والمتخيلة.. مع التوازن بين فقه العبادات.. وفقه المعاملات.. وفقه الأموال والثروات.. وفقه السياسات.. فكان الإبداع في المذاهب الفقهية الكبري المعتبرة.. وكان الإبداع ـ كذلك ـ في الفقه السياسي لدي الفرق الإسلامية, التي بدأت جميعها حركات وتيارات سياسية في الأساس.
> كذلك تزامل وتوازن الإبداع الإسلامي في الفلسفة الإسلامية ـ علم التوحيد.. علم الكلام ـ الذي مثل آلية العقلانية الإسلامية المؤمنة في البرهنة علي عقائد دين الفطرة.. تزامل ذلك وتوازن مع إبداع العقل المسلم في ميادين علوم الكون, التي كانت ـ هي الأخري عبادة الله, يصبح أعلامها الأكثر خشية لله, عندما يكتشفون أسرار الله في الكون.. فهم المفسرون لكتاب الكون المنظور, كما أن مفسري القرآن الكريم هم المفسرون لكتاب الله المسطور.
بهذا المنهاج الوسطي المتوازن أبدع العقل المسلم علوم الحضارة الإسلامية في قرون التأسيس والاجتهاد التي ساد فيها هذا المنهاج..
> فلما حدث الانقلاب الحضاري علي الوسطية الإسلامية, الذي تعسكرت فيه الدولة ـ بسبب صراع الشعوبية الفارسية مع العروبة ـ ولما امتد عمر هذه العسكرة لمواجهة المخاطر الخارجية التي مثلتها الغزوات الصليبية(489 ـ690 هـ1096 ـ1291 م) والتترية(656 هـ1258 م).. ضمر الفقه السياسي, وانصرف العقل الفقهي الي التفصيل والتفريع, وإلي الفروض المتخيلة والمتوهمة في فقه العبادات, فاتحا الأبواب الواسعة للتعصب المذهبي الذي مارسه أهل الجمود والتقليد.. ولولا لطف الله ـ سبحانه وتعالي ولولا مركزية القرآن الكريم في الثقافة والحضارة, ولولا اشتداد المخاطر الخارجية التي هددت وجود الأمة كلها.. ولولا استمرار دعوات ودعاة التجديد وسلسلة المجددين, لمزقت الخلافات الفقهية والتعصب لها وحدة أمة الإسلام.
وفي ميدان التفكير الفلسفي, كان شيوع التأويلات للمتشابهات من تجليات هذا الانقلاب الحضاري, فكثرت الخلافات والاختلافات, وأسهمت النزعات الباطنية والغنوصية والعرفانية ـ عن طريق بعض الطرق الصوفية ـ في إشاعة هذه الخلافات بين قطاعات من عوام الناس.
ولقد رصد الفقيه الفيلسوف أبو الوليد بن رشد(250 ـ295 هـ1126 ـ1198 م) هذا التحول في هذا الميدان, وكيف شاعت التأويلات وانتشرت, بعد أن كان ممنوعا وضعها في كتب الجمهور.. وكيف أدخلت الخلافات الي ميادين الثوابت المؤسسة لوحدة العقل المسلم, وكيف أدي ذلك الي التفرق والتعصب.. بل وتراجع من الفضاء العام!.
