المدير التنفيذى لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا يتحدث عن التسامح من منظور الإسلام
بقلم \ الكاتب و المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد اللطيف
رئيس تحرير جريدة الأمة العربية ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
مما لاشك فيه أن التسامح منهج اسلامى أصيل قال الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [الحجر: 85]، وقال: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237]، وقال: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 134]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديدُ بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسَه عند الغضب))، وقال: ((إذا قدرتَ على عدوِّك، فاجعل العفوَ شكرًا للقدرة عليه)).
والتسامح، والاحتمال، وسَعَة الصدرِ، والعفو عند المقدرة، والحلم والتواضع، وضبط النفس والصبر على المكاره، كلُّ هذه الأخلاق الكريمة والصفات الفاضلة المحمودة عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم من أيمن الخصال الحميدة أثرًا، وأجزلها فائدةً، وأعودها بالخير على المجتمع الإنساني؛ فهي تُؤكِّدُ المحبةَ بين المتحابِّين، وتؤلف بين المتنافرين، وتقرِّبُ بين المتباعدين، وتهدي قلوب الحائرين، وتسكن نفوس الثائرين، وتُبطِلُ كيد الكائدين، وتفضُّ المشاكل المستعصية، وتحل العقد المستحكمة، ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35].
وإن من الثمرات الطيبة التي يَجنيها صاحبُ هذه الأخلاق الكريمة في الدنيا حبَّ الناس له، وثَناءَهم عليه، وابتعادهم عن إلحاق الأذى به، وتعاونهم في قضاء مصالحه، وتيسير أموره، وتحقيق رغائبه، أما الثمرة التي يجنيها في الآخرة فجنةُ نعيمٍ، وقربٌ من رب العالمين.
ولقد كان لنا في رسول الله أسوةٌ حسنة؛ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، هذا الرسول الكريم الرؤوف الرحيم، صفوةُ الخلق صلوات الله وسلامه عليه كان في الذروة العليا، والمقام الأسمى في التسامح والرحمة، والحلم والرأفة، لَقي من أذى الناس، ومشاقِّ الدعوة، والصبر على الجهاد في سبيل الله، واحتمال الآلام والمتاعب لإسعاد العالم – ما يجبُ أن يكون نبراسًا لكل مؤمن، وهدايةً لكلِّ مَن يتشرف بالانتساب إلى هذا الدين الحنيف.
كان صلى الله عليه وسلم وافرَ الحلمِ والاحتمال، كثيرَ الفضلِ والإفضال، يصلُ من قطَعَه، ويواسي من منعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويغضُّ طرفه على القذى، ويحبس نفسه عن الأذى، ويصبر على ما يشقُّ ويكره، ولا يَزيد مع إيذاء الجاهلين إلا صبرًا وحلمًا، وتسامحًا وعفوًا، وما انتقم لنفسه قطُّ إلا أن تُنتَهَكَ حُرمةٌ من حرمات الله؛ فيغضب لله أن تُنتهَكَ حرمتُه، وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن معصيةً وإثمًا، نزل عليه جبريل فقال: يا محمد، إني أتيتك بمكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة؛ ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]؛ أي: خُذ ما عفا لك وسهل من أفعال الناس وأخلاقهم، ولا تطلب منهم ما يَشُقُّ عليهم؛ حتى لا يَنفروا، وأمرهم بالمعروف والجميل من الأفعال، وأَعرِضْ عن الجاهلين منهم بالمجاملة وحُسن المعاملة، ودفعِ السيئة بالحسنة؛ ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
ولقد كان لهذا التأديب الذي أدَّبه به ربُّه أجملُ الأثر في نفسه؛ انظر إليه صلى الله عليه وسلم حين طارَده قومُه بالطائف – لأنه يدعوهم إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة – وأغرَوْا به عبيدهم وسُفهاءَهم حتى أدمَوْا قدمَه، وشَجُّوا رأسه، وضجَّت ملائكةُ السماء من شدة ما لَقِيَه صلى الله عليه وسلم من أذى قومه، ونزل عليه ملَكُ الجبال يقول له: (يا محمد، إن الله أمرني أن أُطِيعك فيما تأمر به في قومك)، انظر إليه صلى الله عليه وسلم مع هذا كلِّه تطيب نفسُه، فبدل أن يسكت عنهم أو يدعوَ عليهم، يعتذرُ عنهم ويدعو لهم، فيقول: ((أرجو أن يُخرِجَ الله من أصلابهم من يعبدُ الله، اللهم اهدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون))، فيقول الملك مُتعجِّبًا من شدة شفقته ووفرة حلمه: صدق مَن سمَّاك الرؤوفَ الرحيمَ!
وانظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد دخل مكة منتصرًا بعد أن أُخرِجَ منها قسرًا، وأصبحت قريشٌ كلها في قبضة يده حتى ظنَّ كثيرٌ منهم أن هذا اليوم الذي فُتحَتْ فيه مكة هو يوم هلاكهم واستئصالهم؛ انتقامًا منهم؛ حيث أَخرجوا الرسول من داره بمكة بغير حقٍّ، وكسروا رباعيتَه، وقتلوا عمَّه حمزةَ يوم أُحُدٍ، وجمعوا عليه الأحزاب، وحاربوه بالمدينة، ولكنه صلى الله عليه وسلم عفا عنهم، وأطلقَهم، ولم يَزِدْ على أن قال لهم ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته: ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92]، فاستل بهذا ما بَقِي في نفوسهم من العناد والغطرسة، ودخَل الناس في دين الله أفواجًا، وكان في ذلك عزة للمسلمين.