بغْداد، نُصب فنيَّة تروي حِكاية حضارة وهوية

بقلم منتصر صباح آل شمخي الحسناوي – بغْداد، نُصب فنيَّة تروي حِكاية حضارة وهوية

في عام 2009، زرتُ مدينة جِدّة، وأثناء لقاء جمعنا برئيس غرفة التجارة فيها أهدانا مجلّداً فاخراً يوثق أهم النُّصب الفنية المنتشرة في المدينة، مصحوباً بصور ٍوتفاصيل دقيقة لكل عمل، كان المجلّد أنيقاً يَعكس اهتماماً واضحاً بتوثيق هذه الأعمال كجزءٍ من هويةِ المدينة الثقافية والسياحية.
عندها راودتني فكرة: لماذا لا يكون هناك مجلّد مماثل يوثق النُّصب الفنية في بغداد؟
مَدينة الفَّن والحضارة التي تَحتضن بين شوارعها وساحاتها عشرات الأعمال النحتية التي تجسّد الهوية العراقية بكل أبعادها.
طرحتُ الفكرة على عدد من المختصين بالفن التشكيلي العراقي فجاءني الرد مُحمّلاً بالدلالة: “نحتاج إلى مجلّدات، لا مجلّد واحد لحصر نُصب بغداد”
بغداد ليست مجرد عاصمة سياسية أو إدارية بل هي سجل مفتوح للتاريخ تنطق معالمها بالفن والإبداع، إذ تحكي كل زاوية فيها قصة ويقف كل تمثال شاهداً على مرحلة من مراحل العراق. النُّصب فيها ليست مجرد أعمال فنية أو زينة حضرية بل هي رموز وطنية وثقافية تحفظ ذاكرة المكان والإنسان، وتجسّد صراع الهوية والاستمرارية عبر الزمن.
وبينما يتجسد الماضي في تلك القطع الفنية، يستمر الحاضر في كتابة فصول جديدة من الإبداع الذي يُعبر عن هموم وآمال الشعب العراقي.
بمجرد الوصول إلى مطار بغداد الدولي، ستلحظ على أحد الجدران الضخمة “نصب بساط الريح” الذي يجسد أحد أشهر الرموز في التراث العربي، هذا العمل الفني ببساطه الطائر يأخذ الزائر في رحلة خيالية إذ يمتزج الخيال بالواقع وكأن بغداد تستقبل زائريها برسالةٍ مفادها “هنا تبدأ الحكايات”.
وعلى مقربةٍ منه يقف “تمثال عباس بن فرناس” ذلك العالِم الذي حَلم بالطيران ليعكس روح الابتكار والمعرفة التي لطالما ميزت حضارته بقدرة العقل البشري على تجاوز حدود الممكن.
منذ آلاف السنين كان الفن والنحت جزءًا من هوية العراق وهذا ما نشهده بوضوح في تمثال ” نابو ” الذي يقف منذ 2800 عام شامخاً عند مدخل المتحف الوطني العراقي، “نابو” إله الحكمة والكتابة عند البابليين ليس مجرد قطعة أثرية بل هو شاهد على العمق الحضاري للعراق ومثال حي على أن النحت لم يكن يوماً زينةً عابرة، بل لغة تحفظ المعرفة وتوثّق المسيرة الإنسانية وما يثير الإعجاب في هذا التمثال هو الدقة في التفاصيل التي تعكس التراث البابلي العريق وتُظهر تأثيرات الحضارات المتعاقبة على أرض العراق.
حين تمرُّ في ساحة التحرير لا يمكنك إلا أن ترفع نظرك نحو “نصب الحرية” الذي صمّمه الفنان جواد سليم عام 1961 ليكون تحفةً نحتيةً تُجسّد كفاح العراقيين ضد الظلم وتروي عبر تكوينها البصري الملحمي سرداً متكاملاً للحركات السياسية والنضالية في البلاد.
هذا النصب لم يعد مجرد منحوتة برونزية بل أصبح رمزاً وطنياً تتجمع حوله الاحتجاجات والمطالب الشعبية، ليتحول إلى منصة حية تنطق بصوت الشارع العراقي ويجمع بين التاريخ والحداثة.
في قلب بغداد وسط الكرادة تقف “كهرمانة” تلك الفتاة التي تُفرغ الزيت المغلي فوق اللصوص المختبئين في الجرار في مشهد مستوحى من قصة “علي بابا والأربعين حرامي” هذا النصب الذي أبدعه النحات محمد غني حكمت لم يكن مجرد استعادة لحكاية من التراث بل هو استدعاء ذكي لقيم الانتصار على الشر والدهاء في مواجهة الخطر ليصبح من أكثر معالم بغداد شهرةً، ويكتسب هذا العمل أهمية إضافية حين نتأمل في كيفية إعادة استخدام الأساطير الشعبية لتجسيد قضايا العصر مما يجعله جسراً بين الماضي والحاضر.
أما إذا اتجهتَ إلى شارع أبي نواس، فستجد نفسك أمام “تمثال السندباد البحري” ذاك البحّار المغامر الذي خرج من بغداد ليجوب العالم وعاد محملاً بالحكايات والعجائب هذا النصب لا يعكس فقط شخصية خيالية من “ألف ليلة وليلة” بل يرمز إلى الروح العراقية المتمردة على الجمود وإلى بغداد التي كانت يوماً قبلة العلماء والتجار والمستكشفين، يضيف التمثال طبقة من الدراما بأسلوبه التعبيري وحركاته الدقيقة التي تشبه رقص الأمواج مما يجعله رمزاً للحركة والاكتشاف.
وعلى مقربة منه حكاية اخرى من الف ليلية وليلة ترويها شهرزاد لشهريار في منطقة الكرادة الشرقية على شارع أبو نواس في عمل برونزي للنحات محمد غني حكمت يسير من خلاله إلى واحدة من أشهر الأساطير وأكثرها شعبية، ألا وهي حكايات ألف ليلة وليلة التي لاقت شهرةً ضخمة في بغداد، حيث نجد أقدام شهريار متجهة نحو الأسفل على منَّصة رخامية حمراء اللون مما يرمز إلى عرشه الملوّث بدماء العديد من الضحايا.
لكنَّ بغداد ليست مدينة الأساطير والحكايات فقط بل هي أيضاً مدينة البطولات والتضحيات في ساحة الاحتفالات الكبرى نجدُ “نصب الجندي المجهول” إذ تتداخل مشاعر الفخر والحداد في آنٍ واحد وفي الجهة الأخرى من العاصمة يشمخ “نصب الشهيد” ، بتصميمه الفريد لإسماعيل فتّاح الترك حيث تتفتح القبة الضخمة وكأنها تُعلن عن انبعاث الروح من جديد ليكون معلماً بصرياً وعاطفياً يجسد معنى الفداء والخلود.
ومن بين النُّصب الحديثة التي تحمل دلالات عميقة، يبرز “نصب إنقاذ الثقافة” الذي صمّمه النحات محمد غني حكمت ليجسّد صراع الثقافة والحضارة في مواجهة العنف والدمار، يظهر النصب مسلّة سومرية إسطوانية الشكل مكسورة وآيله إلى السقوط تمثل الثقافة/ الحضارة العراقية ، تسندها مجموعة من الأيادي والأذرع تعبيراً عن إنقاذها من السقوط، وكُتبت على رخامته رموز بالخط المسماري تقولُ ترجمتها (من هنا بدأت الكتابة) وكأنه تجسيد لصراعٍ مستمر بين الحضارة والجهل وبين النور والظلام، هذا العمل لا يقتصر على الجانب الجمالي فحسب، بل يحمل رسالة إنسانية تهتف إلى العالم بأن الإرث الثقافي لا يمكن أن يُطمس مهما قست الظروف.
وحيث تقف التماثيل حارسةً للذاكرة نجد في شارع المتنبي” تمثال المتنبي” الشاعر الذي حمل فكر العراق ولغته إلى أقاصي الأرض هنا تتداخل عبقرية الكلمة مع فن النحت حيث يُستحضر عَبق الشعر وجمال الحروف في تفاصيل التمثال مما يضيف إليه بعداً روحانياً يعكس شغف بغداد بالأدب والفكر وعلى مقربة منه يقف “نصب نازك الملائكة”المرأة التي غيّرت مسار الشعر العربي وجعلت من بغداد مهداً للحداثة الشعرية.
وفي وزارة الثقافة في شارع حيفا ” نصب دجلة والفرات” ذلك العمل الفني الذي يرمز إلى نهرين منحا العراق الحياة، وصاغا حضارته منذ الأزل، ليظل شاهداً على ارتباط العراقيين بأرضِهِم ومياههم وتراثهم العريق، تجسّد خطوط النحت تدَّفق المياه توحي لجذع النخيل ليمزج اسماعيل فتاح الترك التكهنات في فهم العمل كما لو كانت قصيدة متحركة تروي قصة الماء والحياة التي تمدُّ يد العطاء للسماء.
لكن هذه القائمة لا تغطي سوى جزء من المشهد الفني البغدادي، فهناك عشرات النُّصب الأخرى التي لا يسع ذكرها هنا، مثل “نصب الأمومة” لخالد الرحال الذي يحتفي بدور المرأة في بناء المجتمع، و” نصب الملك فيصل الأول” الذي يربط بين تاريخ العراق والعلاقات الإقليمية، و”نصب معروف الرصافي” الذي يعكس روح الحرية والتجديد في الشعر والسياسة، و”تمثال أبو جعفر المنصور” الذي يستحضر التاريخ العباسي، و”نصب الفارس العربي” الذي يبرز روح الفروسية والشجاعة، و”نصب الزعيم عبد الكريم قاسم” الذي يخلد ذكرى أحد أبرز قادة العراق، وغيرها من الأعمال التي تزيَّن شوارع بغداد حاملةً في طيّاتها روح المدينة وهوية الوطن.
تُضاف إلى هذه المجموعة أعمال معاصرة أخرى تظهر تطور الفن في بغداد مع الحفاظ على جذوره العميقة في التراث.
بغداد ليست مجرد مدينة بل هي متحف مفتوح يحفظ ذاكرة العراق بكل ما فيها من مجد وألم، من انتصارات وانكسارات، من قصص تُحكى وأخرى تنتظر أن تُحكى.
إنها مدينة تتحدث بلغة الفن حيث كل نُصب فيها ليس مجرد تمثال بل صفحة من كتاب العراق الذي ما يزال يُكتب عبر الأزمان، وتستمر بأعمالها الفنية في ربط الماضي بالحاضر لتبقى منارةً للهوية

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial