الأخبار العاجلة

مـــتى نـــدرك أنـنا لـم نــعد مـعارضة؟

بــقلم – منـتصر صـباح الــحسناوي – مـــتى نـــدرك أنـنا لـم نــعد مـعارضة؟

تُعقد اليوم قمة بغداد في ظرف جيوسياسي حساس، تمثّل فيه العراق لاعباً أساسياً في معادلات المنطقة، وصانعاً لتوازنات لم يعد من الممكن تجاهلها.
هذه القمة نافذة لاستعادة الدور العراقي على الخارطة السياسية والاقتصادية الدولية.
وعلى الرغم من أهمية هذا الحدث لم تسلم القمة من هجمة شرسة قادها خطاب “إلغاء” لا يرى في أي إنجاز عراقي سوى مناسبة للتقليل والتشويه.
هذه المعارضة، التي قد تكون بقناعات أو دوافع سياسية أو أحياناً مفتعلة لأجندات خارجية، وهي بحد ذاتها ليست ظاهرة جديدة.
الجديد هو انجراف جزء من العقل الجمعي إلى هذا الخطاب في صورة إعلامية تُحرج العراق أمام الرأي العام الدولي.

ولعل هذا المشهد يعيدنا إلى جذور المشكلة الأعمق: ذهنية المعارضة المتجذّرة في الوعي العراقي.
عاش العراقيون لعقود في ظل أنظمة مركزية ودكتاتورية جعلت من السلطة غايةً بحد ذاتها، ومع هذا الإرث نشأت في الوعي الجمعي نزعة معارضة وجودية، تعاملت مع السلطة كـ “خصم دائم”، لا كإطار تنظيمي لإدارة المصالح الوطنية.
هذه الذهنية لم تتغير بعد 2003، صحيح أن النظام السياسي تبدل، وطرحت الديمقراطية كإطار جديد، لكن طريقة التفكير بقيت أسيرة موروث المعارضة.
المواطن ظلّ ينظر إلى المسؤول بوصفه “متهماً”، والتشكيك به أقرب إلى الفطرة منه إلى التحليل العقلاني.
الأمر لم يقتصر على المجتمع. كثير من الذين تقلدوا المناصب بعد 2003 لم يغادروا هذه الذهنية، لم ينخرطوا في إدارة الدولة كـ”فريق وطني”، بل ظلّ خطابهم مشدوداً إلى منهجية المعارضة:
• يُحمّلون الماضي مسؤولية الفشل،
• يبررون العجز بالخصومة مع من سبقهم،
• يتعاملون مع التحديات كمعارضين لا كصنّاع حلول.

هكذا تحوّل عدد من “المسؤولين” إلى معارضين ببدلات رسمية، ينتظرون المغادرة أكثر من انشغالهم بتحمّل أعباء المسؤولية.
لكن اختزال أزمة العراق في ذهنية المعارضة وحدها سيكون تسطيحاً للمشهد، فالدولة ورثت ملفات معقدة:
• فساد مالي وإداري متجذّر،
• بنى تحتية واهنة،
• إرث ثقيل من الحروب والعقوبات،
• منظومة محاصصة جعلت الولاء للفئة والطائفة فوق معايير الكفاءة والعدالة.
هذه التراكمات جعلت من بناء الدولة مشروعاً يتجاوز الإرادات الفردية والخطابات الشعبوية.

من ذهنية المعارضة إلى ثقافة الإلغاء

أن ذهنية المعارضة المزمنة تداخلت مع ثقافة التشكيك، فأنتجت ما هو أخطر: ثقافة الإلغاء.
النقد، هو وسيلة للتقويم إلا انه يستعمل ايضاً كأداةٍ للإقصاء والتشهير، ومع تصاعد تأثير الإعلام ومنصات التواصل بات الاستهداف الشخصي بديلاً عن نقد الأداء المؤسساتي، حتى اختزلت صورة الدولة في رموز فردية يُعاد تدويرها بين التبجيل الأعمى والإلغاء المطلق.
حين تصل هذه الثقافة إلى قمة كـ”قمة بغداد”، فإن الخطر لا يهدد حكومة معينة، بل يُسيء لصورة العراق نفسه، ويعيد العلاقة بين المواطن والدولة إلى مربّع الخصومة بدل الشراكة.

احترام الدولة يبدأ من احترام القانون

استعادة الثقة بين المجتمع والدولة يبدأ من احترام القانون. فمهابة الدولة تُبنى داخلياً بقدرة المؤسسات على تطبيق القانون بعدالة ومساواة. الآخرون (دولاً وشعوباً) لا يحترمون دولةً إلا بقدر احترامها لقوانينها وسيادتها.
أما الانشغال بالأشخاص سواء بالتبجيل أو بالإلغاء فلن ينتج إلا صوراً مشوّهة للدولة في الداخل والخارج.
هنا يتضح الفارق الجوهري بين من يدير السلطة بوصفها مكسباً حزبياً أو فئوياً، وبين من يدير الدولة كمسؤولية وطنية.
بناء الدولة يتطلب:
• تجاوز المحاصصة المصلحية،
• اعتماد الكفاءة معياراً للتمثيل،
• ترسيخ ثقافة الشراكة الوطنية،
• مغادرة عقلية الغنيمة إلى ثقافة الدولة.

إن نجاح قمة بغداد ليس انتصاراً لحكومة بعينها بقدر ما هو مكسبٌ للعراق كدولة، واحترام الدولة لا يبدأ من الأشخاص وانما من احترام المنظومة القانونية والمؤسساتية والرموز المعنوية الممثلة للدولة.
حين يدرك المجتمع أن الدولة ليست خصماً ولا غنيمة وانما مشروعه الجامع… حينها فقط سنتجاوز ذهنية المعارضة وسنواجه “ثقافة الإلغاء” بوعيٍ ناضج.
نحن الدولة… حين نتصرف بوصفنا كذلك.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial