المدير التنفيذى لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا يؤكد أن الطريق إلى الله واحدٌ لا يتعدد
بقلم \ الكاتب و المفكرالعربى الدكتور خالد محمود عبد اللطيف
رئيس تحرير جريدة الأمة العربية ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
مما لا شك فيه أن من شأن الفتن أنها تتلون وتتزيا بلبوس يختلط فيها الحق بالباطل حتى يصبح الحليم فيها حيران، لكن السعيد من جنّبه الله هذه الفتن التي بلبلت عقائد بعض الناس فرأوا الحق باطلاً والباطل حقًّا، وزعم بعضهم أنه هو المتمسك بشريعة الإسلام قولاً وعملاً، غير أن الله -تعالى- أبى أن يكون الحق إلا واحدًا لا يتعدد ولا يتلون، ورثه الخلفُ عن السلفِ عقيدة وعملاً وفهمًا وسلوكًا، فالذي يدعي التمسك بالشريعة في كل جوانبها فهمًا وعملاً عليه أن يزن كلامه بميزان الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وإلا فلا، فكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك.
إن الطريق الذي يضمن لك السلامة واحد لا يتعدد؛ لأن الله كتب الفلاح والنجاح لحزب واحد فقط، فقال: (حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[المجادلة: 22].
ولن تجد التفرق والتحزب على خلاف المنهج القويم إلا مذمومًا، فكيف يقر ربنا -عز وجل- أمة على التشتت بعدما عصمها بحبله، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)[الأنعام: 159].
فالحق -سبحانه- يبين أن السبيل إليه واحد لا يجوز التقول على رسول الله فيها بادعاء أن الطريق إلى الله بعدد أنفاس البشر يسع المسلمين الخلاف فيها، فهذا مما يُعلم بطلانه في دين الله، فالحق لا يكون إلا واحدًا.
سُئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أتراه من ذلك في سعة؟ فقال مالك: لا، والله حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صوابًا جميعًا؟ ما الحق والصواب إلا واحد.
وفي حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال -صلى الله عليه وسلم-: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة)) قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ((الجماعة)[ابن ماجة 3992 وصححه الألباني].
ثم فسّر لفظ الجماعة عند الحاكم (444) بإسناد حسن لغيره: ((قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: هم من كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)).
فلما تتعددت الفهوم، واختلفت العقول، صار المرد في ذلك حسمًا للنزاع، هو تقييد فهم الأخلاف بفهم الأسلاف.
قال الصنعاني -رحمه الله- في شرحه لحديث افتراق الأمة: ليس ذكر العدد في الحديث: “يعني حديث افتراق الأمة” لبيان كثرة الهالكين وإنما هو لبيان اتساع طرق الضلال وشُعبها ووحدة طريق الحق، نظير ذلك ما ذكره أئمة التفسير في قوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)[الأنعام: 153].
أنه جمع السُبل المنهي عن اتباعها لبيان تشعُّب طرق الضلال وكثرتها وسعتها وأفرد سبيل الهدى والحق لوحدته وعدم تعدده.
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه- قال: «خط لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطًا، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)[الأنعام: 153] مسند أحمد 4142 وحسنه الألباني].
فدل الحديث بنصه على أن الطريق واحد لا يتعدد.
قال ابن القيم في التفسير القيم: “وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه ولا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق، ولو أتى الناس من كل طريق واستفتحوا من كل باب، فالطريق عليهم مسدودة والأبواب عليهم مغلقة إلا من هذا الطريق الواحد فإنه متصل بالله موصل إلى الله.
قال يونس بن عبيد: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها.
فالمسلم الحق لا تزيده الغربة إلا صمودًا على الحق الذي معه، ولو خذله العالمون؛ لأنه مستأنس بالله -تعالى-، وعلم أنه منصور حتى لو كان وحده، فإن الحق لا يُعرف بالكثرة، بل الكثرة قد تكون مخذّلة عن الحق وطلبه، مذمومة إن لم تكن على منهج السلف الذين هم أسلم الناس فهمًا، وأعمق الناس علمًا، وأقل الناس تكلفًا، وإنما المنحرف عن هذه الطريق من استأنس بالتعدد، واستوحش من التفرد، وإن شيخ الإسلام ابن تيمية -طيب الله ثراه- قد قال في ذلك كلامًا يكتب بالذهب لا بالماء، قال رحمه الله في منهاج السنة النبوية: لو انفرد الرجل في بعض الأمصار والأعصار بحق جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولم تنصره الناس عليه، فإن الله معه وله نصيب من قوله: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)[التوبة: 40].
قال أبو شامة في «الباعث على إنكار البدع والحوادث»: وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة -كما في الحديث- فإن المراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيرًا؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى -يعني النبي وأصحابه- ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم.
وعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك))[مسلم 1920].
لقد اشتملت سورة الفاتحة على الدواء الشافي لحل مشكلات الخلاف والنزاع في الأمة، وذلك في الحث على فهم الصحابة والسلف الكرام، فقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة: 6].
اشتمل على ركني الكتاب والسنة، وقوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7].
اشتمل على فهم السلف لهذا الصراط، مع أنه لا يشك أحد أن من التزم بالكتاب والسنة فقد اهتدى إلى الصراط المستقيم إلا أنه لما كان فهم الناس منه الصحيح ومنه السقيم، اقتضى الأمر ركنًا ثالثًا لرفع الخلاف والنزاع ألا وهو تقييد فهم الخلف بفهم السلف.
ومن الفوائد اليانعة في حديث العرباض بن سارية – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – جمع بين سنته وبين سنة خلفائه الراشدين، وإلى ذلك أشار ابن قدامة في لمعة الاعتقاد، ثم تأمل كيف قابل الاختلاف بالتزام هذا المنهج لتعلم أن ضابط فهم السلف الصالح سببٌ النجاة من التفرق المذموم.
قال الأوزاعي -رحمه الله-: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكُفّ عما كفوا عنه واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم[أصول الاعتقاد].
قال ابن تيمية في «التفسير الكبير»: «من خالف قولهم، وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعًا.
