الغربية – بقلم ابتهال عبد الوهاب 11 أغسطس, 2025
اغتيال العقل هو موضوع يكشف التحديات التي تواجه التفكير النقدي والعلمي في المجتمع العربي، من خلال دراسة العوائق البنيوية للعقل الجمعي العربي الذي دخل مرحلة من الجمود والانحطاط منذ عقود طويلة.
فالعقل العربي قد تم تهميشه تعليمياً وثقافياً لدرجة أنه لا ينتج سوى أسئلة عن الموت والعذاب والقبور، ويبتعد عن أسئلة العلم والفلسفة والأخلاق. فالأمة التي تسأل عن كيف تأكل، ومتى تنام، وكيف تضرب المرأة، هي أمة تم اغتيال عقلها.
يقول شوبنهاور: “أكثر ما يكرهه القطيع هو إنسان يفكر بشكل مختلف، إنهم لا يكرهون رأيه في الحقيقة، ولكن يكرهون جرأة هذا الفرد على امتلاك الشجاعة للتفكير بنفسه ليكون مختلفاً.”
العوائق التي تعترض التفكير النقدي والعلمي في المجتمع العربي تتمثل في التشدد الديني، والتقليد الفكري، وغياب الروح العلمية النقدية، وتغول أفكار بعض الجماعات الدينية التي سيّجت الفكر بسياج دوغمائي يصعب مع الوقت تحرير العقل منه.
انعدام الشك والتساؤل والنقد، والاعتماد على الحفظ والتلقين والأجوبة المعلبة، هو إعلان صريح لموت العقل.
العقل العربي منهك ومثخن بحمولة التاريخ حتى أصبح عقلاً شيزوفرينياً فاقداً للهوية.
اغتيال العقل الفردي، ووضع الإنسان في قالب أيديولوجي حديدي يستحيل معه أن يفهم نفسه وعلاقاته وإيمانه إلا من خلاله، هو جريمة كبرى ترتكبها الأنظمة حينما تحاول تشكيل مؤسساتها التعليمية والدينية والسياسية في المجتمع على أساس أيديولوجي.
المواطن العربي يتعرض اليوم إلى اغتيال ممنهج للفكر والمنطق، والفلسفة، والثقافة، والقيم، وذلك عبر استدعاء ثقافة الماضي وتحريم ثقافة العقل والعلمانية، ومنع تدريس الفلسفة، ووصم كل من يحاول الخروج من عباءة النقل واللعب على العواطف بالزندقة والفسق.
لأن الفلسفة هي فن العقل، والعقل بلا فلسفة ليس إلا إسفنجة تمتص ما حولها دون أن تفيض بشيء من ذاتها.
كثرة المحرمات والقيود والوصاية الدينية على التفكير والنقد والحريات ساهمت أيضاً في اغتيال العقل العربي وطرد مجتمعاتنا خارج مسار الحضارة الإنسانية.
لم ترتكب جريمة في تاريخنا وحاضرنا أعظم من جريمة اغتيال العقل باسم الله.
وفي مجتمعاتنا التي يجري فيها اغتيال العقل من خلال تكريس الانتماء الوحيد إلى الدين، لا يتم البحث عن الحقيقة لأنها موجودة في خرافات وأوهام الماضي.
ولا يمكن أن يسود التطرف لأي فكرة أو أيديولوجيا ما لم يتم اغتيال العقل وإحلال العاطفة محله، وغالباً ما توحد الناس العاطفة وتتركهم نسخاً مكررة لذات الفكر، بينما العقل يترك كل إنسان عالماً قائماً بذاته ومنسجماً داخله مع كل التناقضات.
والعقل المليء بالمسلمات أكثر من الشكوك، والذي يهرب من السؤال ويصفه بوساوس الشيطان، هو عقل يقيني متطرف لا يرى في هذا الوجود غير حقيقته المطلقة. وبالتالي لا يمكن أن نصفه بالعقل، لأن العقل من وظائفه البيولوجية التفكير، لذلك فهو مجرد صندوق مكتظ بالخردة التي قد يصنع منها يوماً سلاحاً يقتلك به.
وأول الحلول هو ضرورة تكريس نزعة العقل العلمي والنقدي في كافة المجالات، وتوسيع رقعة الحريات الفكرية والاجتهادات العلمية، والدعوة لتبني التفكير النقدي والمنهجي.
والتطرف حتى في الحب هو ذاته التطرف في الكره؛ ففي التطرف في الحب يحاول الإنسان تملك الآخر بنفي وجوده، وفي التطرف في الكره بإقصاء الآخر، وجميعها تؤدي إلى ذات النتيجة: “نفي الوجود”.
ولا يمكن القضاء على التطرف ما لم يكن للعقل وجود فاعل في صناعة الأفكار التي يشترك فيها الناس جميعاً.
ولكي يمكننا الحديث عن ولوج عصر الحداثة، لابد لنا من أن نخرج من شرنقة الأنساق المغلقة المشيدة على أساس اغتيال العقل في البلاد العربية والإسلامية.
وأي دين أو أي فكرة بشكل عام إذا تبنى موقفاً عدائياً ضد العقل والتفكير النقدي، فإنه يضع نفسه في صراع غير متكافئ مع التطور الطبيعي للمعرفة البشرية.
لأن العقل هو الأداة التي يستخدمها الإنسان لفهم العالم، والتكيف مع التغيرات، وحل المشكلات.
وحتى يصل الإنسان إلى العقلانية، عليه أن يقوم بعملية تدمير ممنهجة داخله؛ تدمير الأطراف الحادة لكل ما ينازع العقل وجوده وسيادته، وتدمير كثير من الأفكار والأحكام الموروثة.
جميعها هي قشور صلبة تمنع العقل من الشروق، لأن الأفكار التي تبدو ثابتة لا تحرك العقل، بينما تلك التي تثير التساؤل تفتح أبواب الفهم.
وحين يهتز يقين الإنسان، يشتعل داخله صراع يعيد تشكيل وعيه. فالشك والنقد ليسا موقفاً، بل أدوات تفحص قبل أن تحكم.
العقلانية هي ألم يتجرعه الإنسان قبل أن يحياها.