جـــسيكا..جــرس إنـــذار لــــقادم أســـوأ

بقلم – منتصر صباح الحسناوي – جـــسيكا..جــرس إنـــذار لــــقادم أســـوأ

قصة مؤلمة تلك التي تناقلها العالم عن “جسيكا”، المدرّبة في أحد أحواض عروض الحيتان بميامي، تلك الفتاة الآسيوية الشابة التي تملأ صورها الشاشات بابتسامة هادئة، تؤدي فقرة أمام جمهور، قبل أن يهاجمها الحوت أوركا الذي عاشت معه لسنوات من الانسجام والمحبة، ليضع نهاية مأساوية لحياتها.
القصة مؤثرة، تكاد تُستدَرُّ لها الدموع حتى من عيون لا تعرفها. خلال ساعات، امتلأت منصات التواصل بصور الحوت والفتاة، وتعليقات الحزن والأسى، وحملات التنديد بما حدث.
لكن الحقيقة جاءت كصفعة: “جسيكا” لم تكن موجودة أصلاً، شخصية افتراضية صنعتها الخوارزميات، لا تاريخ لها ولا أهل ولا أصدقاء، مجرد وهم مُتقن الصنعة.

عندما وضعت عنوان كتابي “ثقافة الإلغاء” كنت أعي أن الذكاء الاصطناعي سيحتل مساحة متزايدة في صناعة الرأي العام وتوجيهه، ولهذا حمل الكتاب عنواناً مكملاً يتناول عصر الذكاء الاصطناعي، كثير من الزملاء الأكاديميين والإعلاميين نصحوني أن أكتفي بالكلمتين الأساسيتين ” ثقافة الإلغاء” معتبرين أن الخوض في الذكاء الاصطناعي قد يشتت الفكرة، لكنني كنت أرى أن المستقبل سيشهد تزاوجاً خطيراً بين قدرة التكنولوجيا على إنتاج واقع بديل، وبين نزعة الجماهير إلى الانجراف وراء موجات الغضب أو التعاطف بلا تحقق.
حادثة “جسيكا” لم تكن مفاجأة بالنسبة لي، بل كانت المثال الحي لما توقعت حدوثه.

في جوهر الأمر، ما حدث تجربة متقنة في ما يمكن تسميته بـ “التزييف العاطفي”، الفارق بين الكذب التقليدي والكذب المدعوم بالذكاء الاصطناعي هو أن الأخير يصمم تفاصيله بدقة تلامس مشاعرك، يختار صوراً وألواناً وزوايا تصوير تخاطب اللاوعي، ويربطها بسردية مُحكمة تُصعّب على العقل النقدي التقاط الخيط الأول للشك. في حالة “جسيكا”، كان المستهدف تحريك العقل الجمعي دفعة واحدة، ليصبح ملايين البشر حول العالم أمام شاشة واحدة، يتفاعلون في الاتجاه ذاته، ويعيدون نشر القصة بلا تردد.

العقل الجمعي ليس مصطلحاً عابراً في علم الاجتماع، إنه طاقة كبرى تشكّل المواقف العامة وتحدد ردود الفعل. حين يُمسك طرف ما بمفاتيح هذا العقل، فإنه يكتسب قدرة هائلة على إعادة ترتيب أولويات الناس ومشاعرهم. مع الذكاء الاصطناعي، أصبح بالإمكان تصميم موجة عاطفية خلال ساعات، وتوجيهها نحو هدف بعينه. وإذا كان الأمر في “جسيكا” مجرد قصة بلا أبعاد سياسية أو دينية أو اجتماعية حساسة، فما الذي يمكن أن يحدث إذا حملت القصة لوناً طائفياً، أو بُعداً سياسياً، أو شرارة اجتماعية؟

في السيناريو الديني، يمكن لقصة ملفقة أن تُشعل نزاعاً مذهبياً، أو تحرّك جماهير غاضبة ضد طائفة بعينها، أو تدفع إلى مواقف متطرفة.
في السيناريو السياسي، قد تُستخدم القصة للتسقيط أو إشعال احتجاجات واسعة.
في السيناريو الاجتماعي، قد تنفجر صراعات طبقية أو قبلية أو إثنية بناءً على حادثة مصنوعة من الصفر.
هذه الاحتمالات امتداد طبيعي لما شاهدناه في القصة البريئة شكلاً والخطيرة مضموناً.

هنا يظهر وجه آخر من وجوه الخطر: ثقافة الإلغاء ، حين تندفع الجماهير وراء قصة مصطنعة، فإنها تبدأ فوراً بمحاكمة الأشخاص أو الجهات المرتبطة بها، فيتحول التعاطف أو الغضب إلى موجة مقاطعة أو تشهير أو إقصاء. في العالم الرقمي، تكفي نقرة إعجاب أو إعادة نشر أو تعليق ينسجم مع الموجة، لتصبح جزءاً من محكمة فورية على منصات التواصل، وتكفي وسم أو صورة أو مقطع فيديو ليُلقى شخص في دائرة الإلغاء، حتى لو كان بريئاً.

المجتمع في هذه الحالة يعيش تحت رحمة “القطيع الرقمي”، حيث يُستبدل العقل النقدي بعقل جماعي مندفع، لتتحول الحقائق إلى منتجات قابلة للتعديل وفقاً لمزاج من يصنعها.

حادثة “جسيكا” تكشف أن المشكلة لا تقتصر على التقنية وحدها، وإنما على الثقافة التي باتت تلك التقنيات تفهم توجهاتها وتستثمرها. الذكاء الاصطناعي أداة، لكنه في يد من يملكون مهارة إدارة المشاعر يتحول إلى سلاح غير محدود التأثير قادر على تشكيل وعي الشعوب، وإذا التقت هذه القدرة مع نزعة ثقافة الإلغاء، فإن النتيجة قد تكون إعداماً معنوياً سريعاً لأي طرف مستهدف، مع ما يترتب على ذلك من آثار اجتماعية وسياسية عميقة.

ما نحتاجه اليوم أمام هذا المشهد هو التثقيف لبناء وعي رقمي نقدي لدى الأفراد بتنوعهم ، يمكنهم من التحقق قبل التفاعل، وعلى إدراك أن ما يبدو حقيقياً قد يكون أكثر زيفاً من الخيال، مع تشريعات تجرّم التزييف بكل أنواعه.
قصة جسيكا وغيرها الكثير ليست سوى خطوات صغيرة من عالم واسع نعيش تحوّله بما لا ندرك أبعاده.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial