الأخبار العاجلة

الـــهوية الـــثقافية الــعراقية بـــعد 22 عـــاماً مـن تـــنبيه الـــسيد الــــسيستاني

بـــقلم – مــنتصر صـباح الـــحسناوي – الـــهوية الـــثقافية الــعراقية بـــعد 22 عـــاماً مـن تـــنبيه الـــسيد الــــسيستاني

في حــزيران 2003، كـانت أبوابُ العراق مشرعةً لرياح لم تكن جديدةً عليه، بين ركام الحرب وفوضى الاحتلال، انطلقت عبارةٌ من النجف لتضيءَ ما وراء الدخان: «الخطر الأكبر الذي يواجه العراق هو طمس هويّته الثقافية».
تلك العبارة، التي جاءت جواباً لل”واشنطن بوست” في تموز 2003 عن أسئلة عدة لسماحة السيد السيستاني، لم تكن يأساً بقدر ما كانت قراءةً واعيةً لما قد يحدث حين تُهمل الجذور، وحين يُظن أن الهويّة شيءٌ محفوظٌ في المتاحف والكتب، بينما هي في الحقيقة روحُ الناس وصوتُ المكان.

ومع مرور السنين، بدا ذلك التحذير كجرسِ إنذارٍ لم ينصت له الكثيرون إلا بعدما علا طرقه على الأبواب واشتّدت الأزمات، فرجعت الكلمةُ لقائلِها وحُقَّ العملُ بها.
منذ ذلك اليوم وحتى الآن، مضت اثنتان وعشرون سنةً حملت معها كل ما يمكن أن يختبر هويّة بلد.
الحروب الطائفية مزّقت جغرافيته، والموروث تعرّض للسرقة والتدمير، وظهرت حركاتٌ متطرفة بعقولٍ همجية مسيّسة، وتدخلات وصراعات إقليمية، وتراجعت اللهجات بسبب النزوح، وواجهت أخرى اجتياحَ ثقافاتٍ غريبة. فضلاً عن أن التكنولوجيا أخذت عقول الشباب إلى عوالم بديلة أقل التصاقاً بالتاريخ.
ومع كل ذلك، بقيت هناك جذور، بعضُها دُفن عميقاً وبعضُها تشبّث بالسطح، تحفظ للعراق ملامحه وتنوّعه ولو بهدوء.

الهوية العراقية لم تكن يوماً جداراً صلداً ولا سوراً منيعاً، بل نهرٌ تتعددُ روافده بقدر تنّوع الناس على أرضه، لكنه نهرٌ واحد.
الهويّة تعيشُ في لهجةِ جدتي حين تروي حكاياتها النجفية، وفي نغم لهجات الأنبار والموصل والعمارة والبصرة، وفي جلسات المدن ودواوينها، ومضايف الريف التي تصنع الألفة، وفي بيوت العلم العامة والخاصة، حيث العادات والتقاليد تستبقي الناس قريبين من جذرهم الأول.
ولم يكن غريباً أن يعملَ كثيرٌ من الفئات المجتمعية بفطرة الأصالة حين شعروا بالخطر، وأن يستحضروا مكتسباتهم الثقافية حين اختبرت الأحداث صبرهم.

عند دخولنا المتحف الوطني، لا نرى آثار الجنوب دون الشمال والوسط؛ هو تكاملُ تراثٍ يوحّدنا تحت علمٍ احترمنا وجوده ونفخرُ بتحيته مهابةً ومحبة.
تلك هي الهويّة التي تصرّ على البقاء حتى وإن اختفت بعضُ العيون التي تنظر إليها بتشويش. لكنها موجودة في كتابات الكتّاب، في الجداريات، في الأغاني، وفي الموروث الشعبي الذي يربطُ الناس، بعضهم ببعض، ك”علگ” أملٍ أخضر يلتّفُ على المعصم.

مرّت الأعوام، وكلُّ سنةٍ منها تختبرُ صبرَ العراقيين على أملهم. الاحتلال والأحداث وما آل إليه الوضع من آلاف الشهداء أوحى أحياناً: بأن أبناء الوطن غرباء بعضهم عن بعض.
حاولت تلك الأحداث أن تجعلهم كائناتٍ بلا ذاكرة، تستهلك ما يُلقى إليها دون أن تميّز. ومع كل ذلك، بقيت شجرة الهوية واقفة، أوراقها تساقطت أحياناً، أغصانها انكسرت أحياناً أخرى، لكن جذعها بقي صامداً.

وكان لهذا الصمود أسباب، أولها وجودُ نُخبٍ واعية، مثالها سماحة السيستاني بأطروحاته المعتدلة التي دعت إلى روح الأخوة والمحبة والحفاظ على أرض الوطن، ونخبٌ مجتمعيةٌ وثقافية عَرفت أن الموروث هو الجذر، وأن اختلاف الأغصان وتلوّن الأوراق لا يلغي وحدة الشجرة.
تلك النُخب حفظت التراث، أعادت كتابة الحكايات، صنعت فناً يقاوم النسيان، وأشعلت شموعاً صغيرة في دواوين المدن ومضايف الريف وبيوت العلم، لتذكّر بأن ما يجمع العراقيين أكبرُ من كل الفتن.

اليوم، مع وجود أمنٍ نسبي، ومع كل ما تركته العقود الماضية من خوف وارتباك في العقل الجمعي، هناك مسارٌ من الاعتدال بدأ يظهر، مسارٌ يحتاج إلى تعزيزٍ بالوعي والتثقيف، فما حذّر منه السيستاني قبل اثنين وعشرين عاماً لا يزال قائماً إن أهملنا أمره.
فالهويةُ ما زالت مهددة، لكن الأرضَ مهيأةٌ أكثر من أي وقت مضى، هناك شجرةٌ ستظلُّ تمدُّ جذورها في كل بيتٍ عراقي وتزهر، مذكّرة بأن الوطن بيتٌ واحد.
ما قاله السيستاني كان وما يزال دعوةٌ لأن نحرس هذا الجذر ونرعاه، لا أن نكتفي بالأسى عليه.
والذين يواصلون الاعتدال ويربّون أبناءهم على الوعي هم الذين يسقون هذه الشجرة كلَّ يوم، حتى تظلّ تظللنا جميعاً بمحبةٍ لا تنكسر

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial