الأخبار العاجلة

مــــائدة مـن لـــحم بـــشري

بــقلم الــدكتورة غـدير سـلام عـارف – مــــائدة مـن لـــحم بـــشري – تدريسية في جامعة بغداد

في زوايـا الـمجالس، حيثُ تُرتّب الكلمات كما تُرتب الأطباق، تُقام مأدبة خفية لا يُرى فيها خبزٌ ولا ملح، بل تُنصب فيها ألسنةٌ مسنونة كالسكاكين، وتُقدَّم الأرواح المكلومة أطباقًا على طاولة الكلام. هناك، لا يُذكر الغائب بطيب، ولا يُحفظ الحاضر بحُسن، بل يُنهش العرض كما يُنهش اللحم، وتُرمى الأخلاق على الأرض كقشور لا قيمة لها.
ليست الغيبة مجرد “كلام عن الآخر في غيابه”، بل هي سلوك، خُلق ذميم يكشف عن معدن متآكل ونفس غير مأمونة. وحين تجتمع الغيبة مع سوء الخُلق، تُصبح المجالس ساحات هدم لا بناء، وأسواقًا للعار تُعرض فيها كرامات الناس بلا ثمن.
أيّ قلبٍ يقبل أن يُقدَّم أخوه وليمةً؟! وأي خُلقٍ يسمح للسانه أن يُصبح خنجرًا مغروسًا في ظهر غافل؟ إن الغيبة وسوء الخلق لا يُفسدان العلاقة بالناس فقط، بل يمزقان نسيج الروح ويطفئان نور الإيمان في القلب.
تحت هذه “المائدة”، تسقط هيبة الكلمة، ويُنسى أن كل ما يُقال سيُكتب، وأن اللحوم البشرية –كما قالوا– مسمومة، لكنها اليوم مأكولة بشهية!
وهكذا، تبقى “مائدة اللحم البشري” رمزًا قاتمًا لحالة فقدان الأخلاق وغياب التقوى في المجالس، حيث تتحوّل الكلمات إلى خناجر، والحديث إلى ذنوبٍ تمضغ في الخفاء.
قال الله تعالى:{‌وَلا ‌يَغْتَبْ ‌بَعْضُكُمْ ‌بَعْضًا ‌أَيُحِبُّ ‌أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}
إن الغيبة وسوء الخلق ليسا مجرّد انزلاقات لسان، بل هما مرآةٌ لخلل داخليٍّ في الوعي والضمير. وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«‌أَتَدْرُونَ ‌مَا ‌الْغِيبَةُ؟»
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ»
قيل: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟
قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه».
من واجبنا أن نحمي مجالسنا من هذا التلوث الأخلاقي، وأن نعيد بناء العلاقات على أسس الاحترام والستر والصدق.
تجنب صداقة المغتاب ومصاحبته: فالصديق مرآة لصديقه تنعكس عليها خصاله سواء كانت حميدة أم ذميمة، ولنِعْم ما قاله بعض الحكماء: “إذا رأيت من يغتاب الناس فاجهد جهدك أن لا يعرفك، فإن أشقى الناس به معارفوه”.
مجالسة أهل الطاعة واتخاذ العلماء الورعين قدوة: فحريّ بالمؤمن أن يتخذ له من العلماء المتقين وعباد الله الصالحين قدوة يرجع إليهم في تشخيص مصاديق الغيبة حذرًا من التيار العام أو الاقتداء الأعمى، فكثيرًا ما نجد شخصًا يبرّر اغتيابه لفلان بأن كل الناس يتكلمون عليه بذلك وما شابه.
وجاء في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: “سألوا عيسى بن مريم (عليه السلام): يا روح الله، من نجالس؟ قال (عليه السلام): من يذكّركم الله رؤيته، ويزيد في عملكم منطقه، ويرغّبكم في الآخرة عمله”.
ردع المغتاب يساعد كثيراً في القضاء على الغيبة: بل يظهر من الروايات لزوم ووجوب رد الغيبة.
رُوي عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: “ما من رجل ذُكر عنده أخوه المسلم، وهو يستطيع نصره ولو بكلمة ولم ينصره، إلا أذلّه الله عز وجل في الدنيا والآخرة. ومن ذُكر عنده أخوه المسلم فنصره، نصره الله في الدنيا والآخرة”.
وختاماً، أوصي نفسي وإياكم بمراقبة اللسان: ليكن لكل فرد وقفة صادقة مع نفسه في مراقبة أقواله، وتذكير نفسه بأن الكلمة قد تقتل أكثر مما تفعل السيوف.
الابتعاد عن مجالس الغيبة: فالصمت في وجه الخطأ أحيانًا أبلغ من المشاركة فيه، ومن يصمت عن الغيبة يمنع ولائم الظلم من أن تُقام.
غرس خُلق الحياء والاحترام: علينا أن نربّي أنفسنا وأجيالنا على قيمة الحياء من الله والخلق، فحسن الخلق هو جسرٌ إلى القلوب وإلى الجنة.
التذكير بعواقب الغيبة: سواء من الناحية الدينية أو النفسية، فالغيبة تترك أثرًا في النفوس وتُضعف الثقة بين الأفراد.
الاستغفار والتوبة: لا بد من الرجوع إلى الله إذا زلّت ألسنتنا، فباب التوبة مفتوح، والله يحب التوابين.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial