المدير التنفيذى لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا يتحدث عن مقام العقل فى القرآن الكريم
بقلم \ الكاتب و المفكرالعربى الدكتور خالد محمود عبد اللطيف
رئيس تحرير جريدة الأمة العربية ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولي
في كُتب الأديان الكبرى إشاراتٌ صريحة أو ضمنية إلى العقلِ أو إلى التمييز، ولكنها تأتي عرَضًا غيرَ مقصودة، وقد يلمَحُ فيها القارئ بعضَ الأحايين شيئًا من الزِّراية بالعقل، أو التحذير منه؛ لأنه مزلَّة العقائد، وبابٌ من أبواب الدَّعوى والإنكار.
ولكن القرآنَ الكريم لا يذكُرُ العقلَ إلا في مقام التعظيم، والتنبيهِ إلى وجوب العمل به، والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارةُ إليه عارضةً ولا مُقتَضَبة في سياقِ الآية، بل هي تأتي في كلِّ موضعٍ من مواضِعِها مؤكدةً جازمة باللفظ والدلالة، وتكرَّر في كل معرِضٍ من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيمِ عقلِه، أو يُلام فيها المنكِرُ على إهمال عقلِه وقَبول الحَجْر عليه، ولا يأتي تكرارُ الإشارة إلى العقل بمعنًى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيُّون من أصحاب العلوم الحديثة، بل هي تشمَلُ وظائفَ الإنسان العقلية على اختلافِ أعمالِها وخصائصها، وتتعمَّدُ التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطنِ الخِطاب ومناسباته، فلا ينحصِرُ خطابُ العقل في العقل الوازع، ولا في العقل المدرك، ولا في العقل الذي يُناط به التأمُّل الصَّادق، والحُكْم الصحيح، بل يعم الخطابُ في الآيات القرآنية كلَّ ما يتسع له الذِّهن الإنساني من خاصةٍ أو وظيفة، وهي كثيرة؛ إذ هي جميعًا ما يمكن أن يُحيطَ به العقلُ الوازع، والعقل المُدرِك، والعقل المُفكِّر الذي يتولَّى الموازنة والحُكْمَ على المعاني والأشياء[1].
وبهذا المفهوم الشامل للعقلِ دعا الإسلام إلى النظرِ وإلى التفكير والتأمُّل، ونَعَى على الذين لا يفكِّرون ولا يتأملون خَلْق الله، ولا يُعمِلون عقولهم خلوصًا إلى اليقين:
﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 20، 21].
﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 185].
﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الروم: 8].
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [سبأ: 46][2].
وفي عشرات من الآيات القرآنية، بل مئات منها، تتكرَّرُ لفظة (العقل)، وما ارتبط بها مِن ألفاظِ الفِقه والعلم والتفكير، على النحو التالي:
(أ) (عقل) ومشتقاتها: (عقَلوه – تعقلون – تعقل … إلخ)؛ ذُكِرت 48 مرة.
(ب) (علم) ومشتقاتها: (علم – يعلم – يعلمون ….. إلخ)؛ ذُكِرت 866 مرة.
(جـ) (فقه) ومشتقاتها: (تفقهون – تفقه – يفقهوا – يفقهوه .. إلخ)؛ ذُكِرت 20 مرة.
(د) (فكر) ومشتقاتها: (فكر – تتفكروا – يتفكرون …. إلخ)؛ ذُكِرت 18 مرة.
(هـ) (قرأ) ومشتقاتها: (قرأ – اقرأ – قرآن … إلخ)؛ ذُكِرت 87 مرة.
(و) (وعى) ومشتقاتها: (تعيها – أوعى – واعية … إلخ)؛ ذُكِرت 4 مرات.
ومجموع هذه “المواد” التي ذكرتها: ثلاث وأربعون وألف لفظة، وكلها تدورُ على تقدير القرآن للعقل والنَّظر والتفكير.
والمواد التي عرَضْناها هي المواد المباشرة، وهناك مئاتٌ من الألفاظ تدور حول العقل والتفكير بصورةٍ غيرِ مباشرة لم نعرِضْ لها.
هذا هو عنصرُ العقل في الإنسان: موقف القرآن منه، والطريقة المُثْلى لإشباعه من منطق الإيمان، والتفكير في خَلْق الله، وتحصيل العلم، واستغلال قدراتِه وطاقاتِه في البِناء والإبداع.
وثاني الثالوث في النسيج البشري هو الجسد، والجسد هو الكِيان الماديُّ الذي بُنِي على الغرائز؛ غريزة حب البقاء، غريزة التملُّك، غريزة الوالديَّة، غريزة المقاتلة، الغريزة الجنسية … إلخ.
والغريزة: هي العنصرُ المشترك بين أفراد النوعِ الواحد، وهو ميلٌ فطريٌّ يدفَعُ الكائنَ الحي إلى العمل في اتجاهٍ معيَّن تحت ضغط حاجاته الحيوية، وهي بطبيعتِها تتطلَّعُ إلى الإشباع.
وأغلب هذه الغرائز يدور حول حاجتين: حاجة الفم أو البطن للطعام والشراب، وحاجة الجِنس لكَسْرِ الشهوة، وهو طريقٌ لحِفظ النوع.
والإسلام لم يُنكِرْ مكان هاتين الشهوتين أو الحاجتين في النفس الإنسانية:
1- فحلَّ المشكلة الأولى بإباحةِ الطعام والشراب مِن طيِّبات ما رزق الله؛ اعتمادًا على العمل الشريف: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105]، والعمل يجب أن يكونَ حلالاً: حلالاً في مادَّتِه وبضاعته، فلا عمل مشروع بالاتِّجارِ في الخمر، أو لحم الخِنزير، أو أعراض الناس، كما يجب أن يكونَ حلالاً في كيفية التكسُّبِ من ورائه: فلا غشَّ، ولا استغلالَ، ولا ربا، ولا كذب؛ ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275].
فإذا ما كان بالمؤمن عجزٌ أو فاقةٌ، فهناك التكافلُ الاجتماعيُّ بأروعِ صُورِه، ومِن مظاهرِه الزَّكاةُ والصدقة.
2- وحلَّ المشكلةَ الثانية بالزواج: فالزواج هو الحلُّ الجذْري لمشكلة الجِنس، وكان الزواج في المجتمع الإسلامي الأول – حيث حسُنتِ النيات، وطهُرتِ القلوبُ، وسمَتِ الأخلاقُ – أمرًا ميسَّرًا لَم تدخُلْه تعقيدات المدنيَّة وفلسفاتُها المتعفِّنة.
فإذا ما عجَز المسلم عن الزواج لسبب ما، فهناك إعلاء الغريزة أو السُّمو بها؛ بالعبادة والصوم، على حدِّ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءةَ فليتزوَّج؛ فإنه أغضُّ للبصرِ، وأحصَنُ للفَرْجِ، ومن لم يستطِعْ فعليه بالصومِ؛ فإنه له وِجاءٌ”[3].
والرُّوح هي العنصر الثالث الذي يستكمل به البناء الإنساني بعد العقل والجسد، إنها الطاقةُ الغيبيَّة الخفيَّة الحيَّة، التي تُعتَبَر بالإجماع سرَّ حياةِ الكائن البشري، بل سرَّ حياةِ كل كائن حي، ومهما قال العلماء فيها أثناء الحياة وبعد الموت، فهي ما زالت سرًّا غامضًا، وستبقى سرًّا غامضًا؛ لأن اللهَ – سبحانه وتعالى – اختص نفسَه بها.
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [الإسراء: 85].
وكما أن إشباع العقل يكون بالعلم والاختراع والكشوف، وكما أن إشباع حاجتيِ البطن والفَرْج يكون بالطعامِ والشَّراب والزواج، كان لا بدَّ من إشباع الرُّوح؛ حتى لا يختلَّ توازن هذا الثالوث الإنساني.
وإشباع الرُّوح في الإسلام لم يأتِ على حساب العقل والجسد، ولكنه أتى ليأخُذَ مكانه في حيِّزه المعَدِّ له، فلا يختل البناء الإنساني ويميل الميزان لغيرِ صالح الفرد وغير صالح الجماعة.
فكما دعا القرآنُ إلى النظر والتأمُّل وإعمال العقل، وكما دعا إلى التمتُّع بطيِّبات الحياة من طعام وشرابٍ وزينة، أمَرنا الله كذلك بأن نغرسَ في نفوسنا الإيمان بالله، وأن نحييَ أرواحنا بالثقة: الثقة بالله، والثقة بالدين، والثقة بالنفس إلى أبعد مدًى؛ يقول الله – سبحانه وتعالى -: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 1 – 4] [4].
وهذه الكلمات العُلْوية الموجزة تجمَع بين النوعين من الإشباع: إشباع الحاجات المادية، وإشباع الحاجات النفسيَّة أو الرُّوحية.
إشباع الحاجات المادية مثَّلت له الآياتُ بالإطعام من الجوع، والإطعام هنا مذكورٌ على سبيلِ التمثيل لا الحصر؛ فالآية تتَّسع لنعمةِ الله في إشباع كلِّ الحاجات المادية الأخرى؛ كحاجة الإنسان للرِّي من عطش، والزواج لحِفظ النوع، والحماية من الحرِّ والبرد بالملبَس والسَّكن، وهو تفسير يؤيده واقعُ هذا الإنعام من الله – سبحانه وتعالى – على عبادِه مؤمِنهم وكافرهم؛ ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [إبراهيم: 34].
أما إشباعُ الحاجات المعنوية أو النفسية، فقد مثَّلت له الآية بالتأمينِ من الخوف، وهي نعمةٌ كسابقتِها مذكورة على سبيل التمثيل لا الحصر، والخوف هو آفةُ المشاعر النفسية كلها، والخائف المفزوع لا يهنَأُ له طعام، ولا يلذ له شرابٌ، ولا يسعَدُ بملبَسٍ أو مسكن[5].
ولكن كيف يأمنُ الإنسان من الخوف؟ وكيف يتأتى له أن يكون قويَّ الرُّوح، صُلبَ النفس؟ إن أصلَ كل أولئك ومِفتاحَه في “عبادة رب هذا البيت”، في الإيمان العميق بالله سبحانه وتعالى؛ بحيث يصيرُ المؤمنُ من فئة: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173].
إن قمة الإيمان بالله، هي نفسها قمةُ العبودية له، هي نفسها قمةُ العزة أمام البشَر، هي نفسها قمة النصر والغَلَبة على كل مَن يتصدى للمؤمنين.
